فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ} كرر تأكيدًا.
{وَمَا أَنفَقْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} أي قل يا محمد لهؤلاء المغترين بالأموال والأولاد إن الله يوسِّع على من يشاء ويضيِّق على من يشاء، فلا تغتروا بالأموال والأولاد بل أنفقوها في طاعة الله، فإن ما أنفقتم في طاعة الله فهو يخلفه.
وفيه إضمار، أي فهو يخلفه عليكم؛ يقال: أخلف له وأخلف عليه، أي يعطيكم خلفه وبدله، وذلك البدل إما في الدنيا وإما في الآخرة.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان فيقول أحدهما اللَّهُمَّ أعط منفقًا خلفًا وأعط ممسكًا تلفًا» وفيه أيضًا عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله قال لي أَنفق أنفق عليك...» الحديث.
وهذه إشارة إلى الخلف في الدنيا بمثل المنفق فيها إذا كانت النفقة في طاعة الله.
وقد لا يكون الخلف في الدنيا فيكون كالدعاء كما تقدّم سواء في الإجابة أو التكفير أو الادخار؛ والادخار هاهنا مثله في الأجر.
مسألة:
روى الدَّارَقُطْنِيّ وأبو أحمد بن عَدِيّ عن عبد الحميد الهلالي عن محمد بن المُنْكَدِر عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل معروف صدقة وما أنفق الرجل على نفسه وأهله كتب له صدقة وما وَقَى به الرجل عرضَه فهو صدقة وما أنفق الرجل من نفقة فعلى الله خلَفُها إلا ما كان من نفقة في بنيان أو معصية» قال عبد الحميد: قلت لابن المنكدر: ما وَقَى الرجل عرضه؟ قال: يعطي الشاعر وذا اللسان.
عبد الحميد وثّقه ابن معين.
قلت: أما ما أنفق في معصية فلا خلاف أنه غير مثاب عليه ولا مخلوف له.
وأما البنيان فما كان منه ضروريًا يكنّ الإنسانَ ويحفظه فذلك مخلوف عليه ومأجور ببنيانه.
وكذلك كحفظ بنيته وستر عورته، قال صلى الله عليه وسلم: «ليس لآبن آدم حق في سِوى هذه الخصال، بيت يسكنه وثوب يوارِي عورته وجِلْفُ الخبز والماء» وقد مضى هذا المعنى في الأعراف مستوفى.
قوله تعالى: {وَهُوَ خَيْرُ الرازقين} لما كان يقال في الإنسان: إنه يرزق عياله، والأمير جنده؛ قال: {وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} والرازق من الخلق يرزق، لكن ذلك من مال يملك عليهم ثم ينقطع، والله تعالى يرزق من خزائن لا تفنى ولا تتناهى.
ومن أخرج من عدم إلى الوجود فهو الرازق على الحقيقة، كما قال: {إِنَّ الله هُوَ الرزاق ذُو القوة المتين} [الذاريات: 58].
قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا} هذا متصل بقوله: {وَلَوْ ترى إِذِ الظالمون مَوْقُوفُونَ}.
أي لو تراهم في هذه الحالة لرأيت أمرًا فظيعًا.
والخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم، والمراد هو وأمته.
ثم قال: ولو تراهم أيضًا {يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا} العابدين والمعبودين، أي نجمعهم للحساب {ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أهؤلاء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ}.
قال سعيد عن قتادة: هذا استفهام؛ كقوله عز وجل لعيسى: {أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله} [المائدة: 116].
قال النحاس: فالمعنى أن الملائكة صلوات الله عليهم إذا كذبتهم كان في ذلك تبكيت لهم؛ فهو استفهام توبيخ للعابدين.
{قَالُواْ سُبْحَانَكَ} أي تنزيهًا لك.
{أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ} أي أنت ربنا الذي نتولاه ونطيعه ونعبده ونُخلص في العبادة له.
{بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن} أي يطيعون إبليس وأعوانه.
وفي التفاسير: أن حَيًّا يقال لهم بنو مُلَيح من خزاعة كانوا يعبدون الجن، ويزعمون أن الجن تتراءى لهم، وأنهم ملائكة، وأنهم بنات الله؛ وهو قوله: {وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَبًا} [الصافات: 158].
قوله تعالى: {فاليوم لاَ يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعًا} أي شفاعة ونجاة.
{وَلاَ ضَرًّا} أي عذابًا وهلاكًا.
وقيل: أي لا تملك الملائكة دفع ضرّ عن عابديهم؛ فحذف المضاف.
{وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ النار التي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ} يجوز أن يقول الله لهم أو الملائكة: ذوقوا. اهـ.

.قال أبو السعود:

{قُلْ إِنَّ رَبّى يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ} أي يُوسعه عليهَ تارةً {وَيَقْدِرُ لَهُ} أي يضيقُه عليه تارةً أُخرى فلا تخشَوا الفقرَ وأنفقُوا في سبيلِ الله وتعرَّضُوا لنفحاتِه تعالى: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مّن شيء فَهُوَ يُخْلِفُهُ} عِوضًا إمَّا عاجلًا وإمَّا آجلًا {وَهُوَ خَيْرُ الرزقين} فإنَّ غيرَه واسطة في إيصالِ رزقِه لا حقيقة لرازقيتِه {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا} أي المستكبرينَ والمستضعفينَ وما كانُوا يعبدونَ من دون الله. ويومَ ظرفٌ لمضمرٍ متأخِّر سيأتي تقديرُه أو مفعولٌ لمضمرٍ مقدَّمٍ نحو اذكُر {ثُمَّ يَقُولُ للملائكة أَهَؤُلاء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ} تقريعًا للمشركينَ وتبكيتًا لهم على نهجِ قوله تعالى: {أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذونى وَأُمّىَ إلهين} الخ وإقناطًا لهم عمَّا علَّقوا به أطماعَهم الفارغةَ من شفاعتِهم، وتخصيص الملائكة لأنَّهم أشرفُ شركائِهم والصَّالحونَ للخطابِ منهم ولأنَّ عبادتَهم مبدأُ الشِّركِ فبظهور قصورِهم عن رتبة المعبودَّيةِ وتنزههم عن عبادتِهم يظهر حالُ سائرِ شركائِهم بطريقِ الأولويةِ وقُرىء الفعلانِ بالنُّونِ.
{قَالُواْ} استئنافٌ مبنيٌّ على سؤالٍ نشأ من حكايةِ سؤالِ الملائكةِ حينئذٍ فقيل يقولون متنزِّهين عن ذلك {سبحانك أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ} والعدولُ إلى صيغة الماضي للدِّلالةِ على التَّحقُّقِ، أي أنت الذي نواليهِ من دونهم لا موالاة بيننا وبينهم كأنَّهم بيَّنوا بذلك براءتَهم من الرِّضا بعبادتهم ثم أضربُوا عن ذلكَ ونفَوا أنَّهم عبدُوهم حقيقةً بقولهم: {بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن} أي الشَّياطينَ حيثُ أطاعُوهم في عبادِة غيرِ الله سبحانه وتعالى وقيل كانُوا يتمثَّلون لهم ويخيِّلون لهم أنَّهم الملائكةُ فيعبدونهم وقيل: يدخلونَ أجوافَ الأصنامِ إذا عُبدت فيعبدون بعبادتِها {أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ} الضَّميرُ الأوَّلُ للإنسِ أو للمشركينَ والأكثرُ بمعنى الكلِّ والثَّاني للجنِّ.
{فاليوم لاَ يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعًا وَلاَ ضَرًّا} من جملةِ ما يقال للملائكةِ عند جوابهم بالتَّنزه والتَّبرؤِ عمَّا نَسب إليهم الكفرةُ يخُاطبون بذلك على رءوس الأشهادِ إظهارًا لعجزهِم وقصورِهم عند عَبَدتهم وتنصيصًا على ما يُوجب خيبةَ رجائِهم بالكلِّية. والفاء ليستْ لترتيبِ ما بعدها من الحكمِ على جوابِ الملائكةِ فإنَّه محقَّقٌ أجابُوا بذلك أم لا بل لترتيبِ الإخبار به عليه ونسبة عدمِ النَّفعِ والضُّرِّ إلى البعضِ المبهمِ للمبالغةِ فيما هو المقصودُ الذي هو بيانُ عدمِ نفعِ الملائكةِ للعبدةِ بنظمه في سلكِ عدم نفعِ العَبَدةِ لهم كأنَّ نفعَ الملائكةِ لعبدتِهم في الاستحالةِ والانتفاء كنفعِ العبدةِ لهم، والتعرضِ لعدم الضُّرِّ مع أنَّه لا بحث عنه أصلًا إمَّا لتعميمِ العجزِ أو لحملِ عدمِ النَّفعِ على تقديرِ العبادةِ وعدمِ الضُّرِّ على تقديرِ تركِها أو لأنَّ المرادَ دفعُ الضُّرِّ على حذفِ المضاف، وتقييد هذا الحكمِ بذلك اليومِ مع ثبوتِه على الإطلاقِ لانعقادِ رجائِهم على تحقُّقِ النَّفعِ يومئذٍ. وقولُه عزَّ وجلَّ: {وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ} عطفٌ على نقول للملائكةِ لا على لا يملكُ كما قيل فإنَّه ممَّا يقالُ يوم القيامةِ خطابًا للملائكةِ مترتبًا على جوابِهم المحكيِّ وهذا حكاية لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم لما سيقالُ للعبدةِ يومئذٍ إثر حكايةِ ما سيقالُ للملائكةِ أي يومَ نحشرُهم جميعًا ثم نقولُ للملائكةِ كذا وكذا ويقولون كذا وكذا ونقولُ للمشركينَ {ذُوقُواْ عَذَابَ النار التي كُنتُم بِهَا تُكَذّبُونَ} يكون من الأهوالِ والأحوالِ ما لا يحيطُ به نطاقُ المقالِ. اهـ.

.قال الألوسي:

{قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ}.
{وَمَا أَنفَقْتُمْ مّن شَىْء} يحتمل أن تكون ما شرطية في موضع نصب بأنفقتم وقوله تعالى: {فَهُوَ يُخْلِفُهُ} جواب الشرط، ويحتمل أن تكون بمعنى الذي في موضع رفع بالابتداء والجملة بعد خبره ودخلت الفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط، و {مِن شَىْء} تبيين على الاحتمالين، ومعنى {يُخْلِفُهُ} يعطى بدله وما يقوم مقامه عوضًا عنه وذلك إما في الدنيا بالمال كما هو الظاهر أو بالقناعة التي هي كنز لا يفنى كما قيل.
وإما في الآخرة بالثواب الذي كل خلف دونه وخصه بعضهم بالآخرة.
أخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: إذا كان لأحدكم شيء فليقتصد ولا يتأول هذه الآية {وَمَا أَنفَقْتُمْ مّن شيء فَهُوَ يُخْلِفُهُ} فإن الرزق مقسوم ولعل ما قسم له قليل وهو ينفق نفقة الموسع عليه، وأخرج من عدا الفريابي من المذكورين عنه أنه قال في الآية: أي ما كان من خلف فهو منه تعالى وربما أنفق الإنسان ماله كله في الخير ولم يخلف حتى يموت، ومثلها {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا} [هود: 6] يقول ما آتاها من رزق فمنه تعالى وربا لم يرزقها حتى تموت، والأول أظهر لأن الآية في الحث على الإنفاق وأن البسط والقدر إذا كانا من عنده عز وجل فلا ينبغي لمن وسع عليه أن يخاف الضيعة بالاتفاق ولا لمن قدر عليه زيادتها، وقوله تعالى: {وَهُوَ خَيْرُ الرزقين} تذييل يؤيد ذلك كأنه قيل: فيرزقه من حيث لا يحتسب.
وقد أخرج الشيخان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما اللهم أعط منفقًا خلفًا ويقول الآخر اللهم أعط ممسكًا تلفًا».
وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن جابر بن عبد الله بن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل ما أنفق العبد نفقة فعلى الله تعالى خلفها ضامنًا إلا نفقة في بنيان أو معصية».
وأخرج البخاري، وابن مردويه عن أبي هريرة أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: «قال الله عز وجل أنفق يا ابن آدم أنفق عليك».
وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عنه قال: قال عليه الصلاة والسلام «إن المعونة تنزل من السماء على قدر المئونة» وفي حديث طويل عن الزبير قال الله تبارك وتعالى: «أنفق أنفق عليك وأوسع أوسع عليك ولا تضيق أضيق عليك ولا تصر فأصر عليك ولا تحزن فاخزن عليك إن باب الرزق مفتوح من فوق سبع سماوات متواصل إلى العرش لا يغلق ليلًا ولا نهارًا ينزل الله تعالى منه الرزق على كل امرىء بقدر نيته وعطيته وصدقته ونفقته فمن أكثر أكثر له ومن أقل أقل له ومن أمسك أمسك عليه يا زبير فكل وأطعم ولا توكي فيوكى عليك ولا تحصى فيحصى عليك ولا تقتر فيقتر عليك ولا تعسر فيعسر عليك» الحديث.
ومعنى الرازقين الموصلين للزرق والموهبين له فيطلق الرازق حقيقة على الله عز وجل وعلى غيره ويشعر بذلك {فارزقوهم مّنْهُ} نعم لا يقال لغيره سبحانه رازق فلا إشكال في قوله تعالى: {وَهُوَ خَيْرُ الرزقين} ووجه الأخيرية في غاية الظهور؛ وقيل إطلاق الرازق على غيره تعالى مجاز باعتبار أنه واسطة في إيصال رزقه تعالى فهو رازق صور فاستشكل أمر التفضيل بأنه لابد من مشاركة المفضل للمفضل عليه في أصل الفعل حقيقة لا صورة.
وأجاب الآمدي بأن المعنى خير من تسمى بهذا الاسم وأطلق عليه حقيقة أو مجازًا وهو ضرب من عموم المجاز.
{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا} أي المستكبرين والمستضعفين أو الفريقين وما كانوا يعبدون من دون الله عز وجل، و {يَوْمٍ} ظرف لمضمر متقدم أي واذكر يوم أو متأخر أي ويوم نحشرهم جميعًا {ثُمَّ يَقُولُ للملائكة} إلى آخر يكون من الأحوال والأهوال ما لا يحيط به نطاق المقال، وظاهر العطف بثم يقتضي أن القول للملائكة متراخ عن الحشر وفي الآثار ما يشهد له، فقد روى أن الخلق بعد أن يحشروا يبقون قيامًا في الموقف سبع آلاف سنة لا يكلمون حتى يشفع في فصل القضاء نبينا صلى الله عليه وسلم فلعله عند ذلك يقول سبحانه للملائكة عليهم السلام: {أَهَؤُلاء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ} تقريعًا للمشركين وتبكيتًا وإقناطًا لهم عما علقوا به أطماعهم الفارغة من شفاعة الملائكة عليهم السلام لعلمه سبحانه بما تجيب به على نهج قوله تعالى لعيسى عليه السلام {أأنت قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذونى وَأُمّىَ إلهين مِن} [المائدة: 6 11] وتخصيصهم بالذكر لأنهم أشرف شركاء المشركين الذين لا كتاب لهم والصالحون عادة للخطاب وعبادتهم مبدأ الشرك بناء على ما نقل ابن الوردي في تاريخه في أن سبب حدوث عبادة الأصنام في العرب أن عمرو بن لحي مر بقوم بالشام فرآهم يعبدون الأصنام فسألهم فقالوا له هذه أرباب نتخذها على شكل الهياكل العلوي فنستنصر بها ونستسقي فتبعهم وأتى بصنم معه إلى الحجاز وسول للعرب فعبدوه واستمرت عبادة الأصنام فيهم إلى أن جاء الإسلام وحدثت عبادة عيسى عليه السلام بعد ذلك بزمان كثير فبظهور قصورهم عن رتبة المعبودية وتنزههم عن عبادتهم يظهر حال سائر الشركاء بطريق الأولوية.
و {هَؤُلاء} مبتدأ و {كَانُواْ يَعْبُدُونَ} خبره و {إِيَّاكُمْ} مفعول {يَعْبُدُونَ} قدم للفاصلة مع أنه أهم لأمر التقريع واستدل بتقديمه على جواز تقديم خبر كان إذا كان جملة عليها كما ذهب إليه ابن السراج فإن تقديم المعمول مؤذن بجواز تقديم العامل.
وتعقبه أبو حيان بأن هذه القاعدة ليست مطردة ثم قال: والأولى منع ذلك إلا أن يدل على جوازه سماع من العرب، وقرأ جمهور القراء {نَحْشُرُهُمْ ثُمَّ نَقُولُ} بالنون في الفعلين.
{قَالُواْ} استئناف بياني كأنه قيل: فماذا تقول الملائكة حينئذ؟ فقيل تقول منزهين عن ذلك {سبحانك أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ} والعدول إلى صيغة الماضي للدلالة على التحقق أي أنت الذي نواليه من دونهم لا موالاة بيننا وبينهم كأنهم بينوا بذلك براءتهم من الرضا بعبادتهم ثم أضربوا عن ذلك ونفوا أنهم عبدوهم حقيقة بقولهم: {بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن} أي الشياطين كما روى عن مجاهد حيث كانوا يطيعونهم فيما يسولون لهم من عبادة غير الله تعالى، وقيل صورت الشياطين لهم صور قوم من الجن وقالوا: هذه صور الملائكة فاعبدوها فعبدوها، وقيل: كانوا يدخلون في أجواف الأصنام إذا عبدت فيعبدون بعبادتها، وقيل أرادوا أنهم عبدوا شيئًا تخيلوه صادقًا على الجن لا صادقًا علينا فهم يعبدون الجن حقيقة دوننا، وقال ابن عطية: يجوز أن يكون في الأمم الكافرة من عبد الجن وفي القرآن آيات يظهر منها أن الجن عبدت في سورة الأنعام وغيرها {أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ} الضمير الثاني للجن والأول للمشركين، والأكثر على ظاهره لأن من المشركين من لم يؤمن بهم وعبدهم اتباعًا لقومه كأبي طالب أو الأكثر بمعنى الكل، واختار في البحر الأول لأن كونه بمعنى الكل ليس حقيقة وقال: إنهم لم يدعوا الإحاطة إذ يكون في الكفار من لم يطلع الله تعالى الملائكة عليهم السلام عليهم أو أنهم حكموا على الأكثر بايمانهم بالجن لأن الايمان من أعمال القلب فلم يذكروا الاطلاع على عمل جميع قلوبهم لأن ذلك لله عز وجل، وجوز أن يكون الضمير الأول للإنس فالأكثر على ظاهره أي غالبهم مصدقون أنهم آلهة، وقيل مصدقون أنهم بنات الله {وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَبًا} [الصافات: 158] وقيل مصدقون أنهم ملائكة.
{فاليوم لاَ يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعًا وَلاَ ضَرًّا} من جملة ما يقال للملائكة عليهم السلام عند جوابهم بالتبرىء عما نسب إليهم المشركون يخاطبون بذلك على رؤس الأشهاد إظهارًا لعحزهم وقصورهم عن زاعمي عبادتهم وتنصيصًا على ما يوجب خيبة رجائهم بالكلية، وقيل للكفار وليس بذاك، والفاء لترتيب الأخبار بما بعدها على جواب الملائكة عليهم السلام، ونسبة عدم النفع والضر إلى البعض المبهم للمبالغة فيما هو المقصود الذي هو بيان عدم نفع الملائكة للعبدة بنظمه في سلك عدم نفع العبدة لهم كأن نفع العبدة لهم كأن نفع الملائكة لعبدتهم في استحالة والانتفاء كنفع العبدة لهم، والتعرض لعدم الضر مع أنه لا بحث عنه لتعميم العجز أو لحمل عدم النفع على تقدير العبادة وعدم الضر على تقدير تركها، وقيل لأن المراد دفع الضر على حذف المضاف وفيه بعد، والمراد باليوم يوم القيامة وتقييد الحكم به مع ثبوته على الإطلاق لانعقاد رجاء المشركين على تحقق النفع يومئذ.
{وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ النار التي كُنتُم بِهَا تُكَذّبُونَ} عطف على {نَّقُولُ للملائكة} [سبأ: 40] وقيل على لا يملك وتعقب بأنه مما يقال يوم القيامة خطابًا للملائكة مترتبًا على جوابهم المحكي وهذا حكاية لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما سيقال للعبدة يومئذ إثر حكاية ما سيقال للملائكة عليهم السلام.
وأجيب بأن ذلك ليس بمانع فتدبر.
ووقع الموصول هنا وصفًا للمضاف إليه وفي السجدة في قوله تعالى: {عَذَابَ النار الذي كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ} صفة للمضاف فقال أبو حيان: لأنهم ثمت كانوا ملابسين للعذاب كما ينبىء عنه قوله تعالى: {كُلَّمَا أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَا أُعِيدُواْ فِيهَا} [السجدة: 0 2] فوصف لهم ثمت ما لابسوه وهنا لم يكونوا ملابسين له بل ذلك أول ما رأوا النار عقب الحشر فوصف ما عاينوه لهم، وكون الموصول هنا نعتًا للمضاف على أن تأنيثه مكتسب لتتحد الآيتان تكلف سمج. اهـ.